حرب حزيران 1967: حينما غيّرت ستة أيام ملامح المنطقة
المقدمة: التاريخ ذاكرة الشعوب
التاريخ ليس مجرد سطور مكتوبة في كتب، ولا أحداث منصرمة يطويها الغبار. إنّه ذاكرة الشعوب، ومرآة الأمم، ووعاء التجارب الذي يحمل في داخله العِبر والدروس. ومن بين المحطات التي لا يمكن للأمة العربية أن تتجاوزها، تبقى حرب الخامس من حزيران عام 1967، أو ما عُرف بـ "النكسة"، علامة فارقة في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي. ستة أيام فقط كانت كافية لتغيير خريطة المنطقة سياسياً وعسكرياً ونفسياً، وما زالت آثارها تتردد حتى اليوم.
المشهد قبل العاصفة
عقب نكبة فلسطين عام 1948، عاش العرب صدمة ضياع الأرض الأولى وقيام الكيان المحتل على أنقاضها. لكنهم ظلوا متمسكين بأمل العودة، متغذّين على شعارات الوحدة والتحرير. كانت مصر بزعامة جمال عبد الناصر في أوج قوتها السياسية، تقود المشروع القومي العربي، وتدعم حركات التحرر في أرجاء العالم. سوريا بدورها دخلت في توترات مستمرة مع إسرائيل على الحدود الشمالية، بينما كان الأردن يتحمل عبء الضفة الغربية وسكانها.
غير أنّ هذه القوى كانت تعاني في داخلها ضعفاً بنيوياً؛ فالجيوش العربية لم تكن متكاملة، والتنسيق العسكري كان هشّاً، بينما التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي يتنامى بدعم غربي مباشر، وخاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.
الأيام التي سبقت الحرب
في ربيع 1967 تصاعد التوتر إلى حدّه الأقصى. فقد قامت إسرائيل بتحشيد قواتها على الجبهات، فيما تبادلت مع سوريا الاشتباكات الحدودية. وفي خطوة ذات رمزية كبرى، أعلنت مصر إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية، ما اعتُبر تهديداً مباشراً لتجارتها ونشاطها العسكري.
في تلك الأثناء، كان الشارع العربي يغلي بالشعارات، والميكروفونات تبث بيانات النصر القادم. لكن خلف هذا الضجيج، كانت إسرائيل تجهّز لخطتها الكبرى: ضربة جوية ساحقة تشلّ القدرات العسكرية العربية قبل أن تبدأ الحرب.
أما المجتمع الدولي، فقد اتخذ مواقف متباينة. الاتحاد السوفيتي حاول دعم حلفائه العرب، لكن بحذر. الولايات المتحدة، في المقابل، كانت أقرب إلى إسرائيل، تحرّكها مصالح استراتيجية في المنطقة وتوازنات الحرب الباردة.
اندلاع الحرب: 5 يونيو 1967
في فجر الخامس من حزيران، وقبل أن يستيقظ الجنود في كثير من المواقع، انطلقت الطائرات الإسرائيلية في عملية مباغتة. خلال ساعات قليلة، دُمّرت معظم الطائرات المصرية وهي جاثمة على مدارج المطارات. الضربة كانت قاصمة: السماء أصبحت بلا غطاء، والجبهة بلا دفاع جوي.
توالت الأحداث بسرعة مذهلة. في سيناء انهارت الدفاعات المصرية تحت ضغط الهجوم الكاسح، واضطرت القوات إلى الانسحاب العشوائي. في الضفة الغربية، دخلت القوات الإسرائيلية في مواجهة مع الجيش الأردني، وتركّزت المعارك حول القدس والضفة. أما على الجبهة السورية، فقد بدأ القصف المدفعي يتصاعد تمهيداً للسيطرة على الجولان.
ستة أيام فقط كانت كافية كي تُرسم هزيمة شاملة.
سقوط الأراضي العربية
ما إن انتهت الحرب حتى كانت الخريطة قد تغيّرت جذرياً:
-
في مصر، فقدت سيناء كاملة وقطاع غزة.
-
في الأردن، ضاعت الضفة الغربية والقدس الشرقية، التي لطالما كانت رمزاً دينياً وحضارياً.
-
في سوريا، سقطت هضبة الجولان بجبالها الاستراتيجية.
بهذا، تضاعفت مساحة الأراضي التي احتلها الكيان الصهيوني ثلاث مرات، وصارت القدس تحت سيطرته، وهو ما مثّل جرحاً عميقاً في وجدان العرب والمسلمين.
الصدمة والنتائج المباشرة
كانت الصدمة أقسى مما يتصور العقل. فالشعوب التي كانت تستمع قبل أيام فقط إلى وعود النصر والكرامة، وجدت نفسها أمام هزيمة ساحقة لم تستغرق سوى أيام. انهارت صورة الجيش العربي المنيع، وتبدّدت أوهام التفوق العددي.
الخسائر البشرية كانت كبيرة، لكن الأثر النفسي كان أعظم. الإحباط تسلل إلى النفوس، وانهارت الثقة بالأنظمة. لقد تحوّلت كلمة "النكسة" إلى مصطلح يلخص مرارة تلك المرحلة.
ما بعد الحرب: الآثار البعيدة المدى
لم تكن الهزيمة نهاية القصة، بل بداية مرحلة جديدة. فقد أصدر مجلس الأمن القرار 242 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل سلام شامل، لكن إسرائيل رفضت الانسحاب الفعلي، واستمر الاحتلال حتى يومنا هذا.
في العالم العربي، أحدثت الهزيمة زلزالاً سياسياً. بدأت الأنظمة تراجع سياساتها، وسقطت كثير من الشعارات الرنانة. غير أنّ الشعب الفلسطيني وجد نفسه في قلب المأساة، ما دفع إلى صعود حركات المقاومة مثل حركة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي أخذت زمام المبادرة بعيداً عن الاعتماد الكلي على الأنظمة.
العِبر والدروس
إن دراسة تلك الحرب لا تهدف إلى استعادة الألم فحسب، بل لاستخلاص العِبر:
-
الجاهزية العسكرية لا تُعوّضها الشعارات: أثبتت الحرب أنّ الجيوش تحتاج إلى إعداد جاد وتخطيط استراتيجي، لا إلى بيانات إعلامية.
-
الوحدة الحقيقية لا الشكلية: لم تنفع الاجتماعات ولا البيانات المشتركة ما دام التنسيق العملي غائباً.
-
قوة الداخل أساس الصمود: فالمجتمعات الممزقة أو المثقلة بالمشاكل الداخلية لا تستطيع أن تواجه عدواً منظماً ومدعوماً.
-
المفاجأة والذكاء الاستراتيجي قد تحسم المعارك: الضربة الجوية الأولى مثال صارخ على أثر المبادرة.
-
الإرادة الشعبية لا تموت: على الرغم من الهزيمة، نهضت المقاومة الفلسطينية، لتؤكد أنّ إرادة الشعوب أقوى من أي نكسة.
الخاتمة: التاريخ الذي لا يموت
اليوم، وبعد مرور عقود على حرب حزيران، لا يزال صداها يتردد. ليس لأنها صفحة مظلمة في تاريخ العرب فحسب، بل لأنها تحمل في طياتها دروساً لا غنى عنها لأي أمة تسعى للنهوض. إنّ دراسة تلك الحرب ليست ترفاً ثقافياً، بل ضرورة لفهم الحاضر، وتجنّب تكرار الأخطاء، وبناء مستقبل أكثر صلابة.
فالتاريخ لا يموت، ومن لا يقرأه جيداً، محكوم عليه أن يعيد مآسيه.
0تعليقات