لماذا يمنع السيستاني صوره بينما تُرفع أعلام الدول؟ أهي من الشعائر؟

 تشهد المسيرات الحسينية حضوراً واسعاً ومتنوعاً يعكس عمق الارتباط بالقضية الحسينية وروحها الرسالية. ومع ذلك، تتباين أساليب المشاركين في التعبير عن هذا الولاء، الأمر الذي يثير أحياناً نقاشات حول حدود الشعائر ومظاهرها. وفي هذا الإطار، أصدر المرجع الديني الأعلى سماحة السيد علي السيستاني دام ظله بياناً أوضح فيه عدم رضاه عن رفع صوره في المسيرات، في حين يواصل بعض المشاركين رفع أعلام دول أو جماعات مختلفة. وهنا يبرز السؤال: هل تُعد هذه الممارسات من صميم الشعائر الحسينية، أم أنها مواقف شخصية تخرج عن إطارها التعبدي والرمزي؟

 

 إن مسألة تحديد ما يدخل ضمن الشعائر الحسينية ليست قضية شكلية ، بل ترتبط بفهم فلسفة هذه الشعائر ودورها في حفظ الهوية الدينية وتعزيز القيم التي ضحّى من أجلها الإمام الحسين عليه السلام. فالتمييز بين ما هو عبادي تعبّدي وما هو تعبير شخصي أو سياسي يكتسب أهمية خاصة، لاسيما عندما تصدر توجيهات واضحة من المرجعية العليا. ومن هنا، فإن الجدل حول رفع الصور أو الأعلام يتجاوز البعد الشكلي ليصل إلى جوهر الشعيرة، وحدود المسموح والممنوع فيها، وأثر ذلك على وحدة الصف ورمزيتها العالمية.

السيد السيستاني دام ظله لا يرضى رفع صوره بالمسيرة الحسينية و آخرون يرفعون اعلام الدول فهل هي من الشعائر؟ 






لنتأمل هنا بعض الممارسات التي جرت بحق الزوار الإيرانيين تحديداً، وهي ممارسات لا شك ولا ريب أنها مدانة، ولا تعبّر بأي حال عن الروح العراقية الأصيلة، ولا عن صفات الكرم والضيافة التي عُرف بها أبناء هذا البلد عبر العصور. إن مثل هذه التصرفات الشاذة تبقى دخيلة على المجتمع، ولا تمثل إلا أصحابها.

لكن إذا أردنا البحث عن أسباب هذه الإساءة، فربما يكون رفع أعلام بعض الدول أحد العوامل المسببة لها، وإن كان ذلك بنسبة ضئيلة. إلا أن الدور الأكبر في إذكاء الاحتقان يقع على وسائل الإعلام المعادية الناطقة بالعربية، والتي تسعى إلى تضخيم الحوادث الفردية وتحويلها إلى فتيل للفتنة بين أبناء الأمة الواحدة.

ومع ذلك، فإن السؤال الجوهري يظل قائماً: هل رفع أعلام الدول الأخرى يُعد من شعائرنا الحسينية؟ الجواب، بكل وضوح، هو: قطعاً لا. فهي لا تنتمي إلى مسيرة الأربعين، لا في جوهرها ولا في مضمونها. لقد كانت رايات الحزن، والسواد، والرايات التي تحمل أسماء ورموز أهل البيت عليهم السلام، كافية عبر القرون للتعبير عن عمق المأساة والفاجعة التي حلت بآل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إن مأساة كربلاء لم تكن حدثاً عابراً، بل جريمة إنسانية فادحة تمثلت في قتل آل بيت النبي، والتمثيل بأجسادهم الطاهرة، وسبي نسائهم وأطفالهم، وسَوقهم بين البلدان إمعاناً في إذلالهم وتعذيبهم. فهل ذاقت تلك الدول التي تُرفع أعلامها في المسيرة شيئاً من ذلك الظلم أو شاركت في تلك التضحية حتى تُكرَّم راياتها في مشهد الحزن؟ إن رفعها وسط هذا السيل الهادر من المحبين لا يضيف للمسيرة شيئاً، بل قد يفتح أبواباً لسوء الفهم والانقسام، وهي أمور طالما حذرت المرجعية العليا من الوقوع فيها.



السيد السيستاني دام ظله لا يرضى رفع صوره بالمسيرة الحسينية و آخرون يرفعون اعلام الدول فهل هي من الشعائر؟

 إن الشعائر الحسينية منذ قرون لم تكن ساحةً لعرض الولاءات الوطنية أو السياسية، بل هي ميدانٌ خالص لإحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام ومبادئه التي تتجاوز الحدود الجغرافية والانتماءات الضيقة. فحين يخرج الملايين في مسيرة الأربعين، فإنهم لا يمثلون جنسياتهم بقدر ما يمثلون انتماءهم للحق والعدل والحرية التي نادى بها الحسين عليه السلام.

رفع أعلام الدول، مهما كانت النوايا حسنة، ينقل رسالة غير متجانسة مع طبيعة هذه المسيرة. فالأربعين ليست مهرجاناً دولياً ولا مناسبةً قومية، وإنما هي رحلة إيمانية تعبّدية، هدفها توحيد القلوب تحت راية واحدة هي راية الحسين عليه السلام. إن إدخال الرموز الوطنية أو السياسية في هذا السياق يُربك المعنى الروحي العميق للشعائر، ويخلق انطباعاً بأن هذه المسيرة تخدم أغراضاً أخرى غير إحياء ذكرى كربلاء.

كما أن التاريخ يشهد بأن الشعائر الحسينية بقيت صامدة أمام محاولات التسييس والتجيير لمصالح آنية، لأنها تقوم على أساس الولاء لأهل البيت عليهم السلام وحدهم. وحتى في أحلك الظروف، عندما كانت مواكب العزاء تقام سراً خوفاً من بطش الحكومات الظالمة، لم يحمل المعزون سوى الرايات السوداء أو الأعلام التي تمثل واقعة الطف، تعبيراً عن نقاء الانتماء وصدق العاطفة.

إن من الخطأ الاعتقاد بأن رفع أعلام الدول هو تعبير عن الشكر أو الامتنان، فالشكر يُقدَّم بوسائل أرقى وأوضح من إدخال رموز وطنية في مسيرة دينية عالمية. ثم إن طبيعة هذه المسيرة لا تحتمل الإشارات التي قد تُفسَّر على أنها انحياز سياسي أو اصطفاف قومي. وكما أن المرجعية العليا أوضحت عدم رضاها عن رفع صور المرجع الأعلى دام ظله، وهو بثقله و مكانته المعروفة، فإن رفع أعلام الدول ليس أولى بالقبول، لأنه يجرّ المسيرة إلى ساحة الرموز السياسية بدلاً من ساحات الإيمان والولاء.

ولعل من المهم أن نتذكر أن مسيرة الأربعين اكتسبت قوتها وتأثيرها من وحدتها وتركّزها على قضية واحدة، هي قضية الحسين عليه السلام. وكل ما يخرج عن هذا الإطار قد يضعف الرسالة، أو يُحدث فجوات بين المشاركين. فبدلاً من أن تتوزع الأنظار بين رايات متعددة، يجدر أن تتوحد القلوب تحت لواء واحد يرمز إلى مظلومية آل البيت وإلى القيم التي استشهدوا من أجلها.


 

في نهاية المطاف، تبقى المسيرات الحسينية ساحةً للتعبير عن الوفاء لنهضة الإمام الحسين عليه السلام، لكنها في الوقت نفسه أمانة شرعية وأخلاقية تتطلب الالتزام بما يصون قدسيتها ويعزز رسالتها العالمية. فالتوجيهات الصادرة عن المرجعية العليا ليست مجرد آراء، بل هي بوصلة تهدف إلى حماية الشعائر من كل ما قد يشتتها أو يحمّلها ما لا ينسجم مع مقاصدها. وبين الرغبة في التعبير الفردي وضرورة الحفاظ على وحدة المظهر العام، يظل الوعي الجماعي هو الضامن لاستمرار هذه المسيرة بما يليق بعظمتها وسموّ هدفها. 

0تعليقات

السلام عليكم.. لك مطلق الحرية في ابداء رأيك ولكن تذكر ان الله يرانا جميعاً

[