رحلة العمر والوظيفة: تأملات في تحديات البحث عن وطن واستقرار

مثل الكثيرين، وجدتُ نفسي ذات يوم أبحث عن عمل، بعد سنوات من الدراسة، ومع تقدم والدي في العمر. كان أملي أن أكون سنداً وعوناً له ولأسرتي، وأن يرى ثمرة جهوده وآماله تتحقق فيّ. لكن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود، خاصة في زمنٍ كان فيه الحصول على وظيفة حكومية أمراً أشبه بالخيال، في ظل توقف التعيينات المركزية.


لقد دفع هذا الواقع بالخريجين نحو التعاقد مع هيئات مثل هيئة التصنيع العسكري، والصبر على منغصات استمرت لعشر سنوات، ليس فقط من أجل العمل، بل للتخلص أيضاً من الخدمة الإجبارية المذلة. هذه المنغصات، التي خفت حدتها بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة، كانت تعكس واقعاً صعباً، حيث كان المتعاقدون يواجهون كوارث حقيقية، وإن كانت السلطة الجائرة تحسب حساب أبناء الوسط والجنوب بعد ان لقنوها درساً ايام الانتفاضة، حتى لو كان ذلك على مستوى المستويات الدنيا من الأجهزة الإدارية.

خارطة عمليات ح\رب الخليج الثانية
خارطة تبين كيف انتقم العالم من شعب العراق بينما الطاغية يتمتع بخيرات العراق


 

 


ذات صباح، جاءت مجموعة من المدنيين وأهل الزيتوني لانتقاء من يرغب بالعمل في التصنيع. كنت متردداً، وكنت الأخير الذي يرفع يده ليسجل اسمه، مما جلب لي توبيخاً من رئيس العرفاء "عبد القادر"، تحملته مرغماً. بعد مدة، غادرنا المعسكر بإجازة لتسعة أيام، كان من المفترض أن نلتحق بعدها بالتصنيع، لكنها امتدت لثلاثة أسابيع بسبب الانتفاضة الشعبانية المباركة.

 ما جرى بعد ذلك، تطرقت إلى بعض تفاصيله في مدونتي السابقة "الفجر العراقي"، والتي يمكن الاطلاع عليها تحت هاشتاك #وطنجي. وفي السادس والعشرين من تموز (يوليو) عام 1992، أي بعد عام ونصف تقريباً، صدر الأمر بتعييني على الملاك الدائم.

 مرت أحداث كثيرة، وتلقيت أنا والعراق ضربات عديدة. لم يمر يوم إلا ومعه كارثة، بما لا يتسع المجال لوصفه. ذكرتني حكايتي بحكاية أهل الكهف، الذين استيقظوا بعد ثلاثمائة عام ليجدوا السنون قد مرت وتغير العالم حولهم في "ليلة" امتدت لثلاثمائة عام.

 ثلاث وثلاثون عاماً مرت بحلوها ومرها. الرضيع فيها صار كهلاً، وشاخ الشاب. تزوج أناس و تطلقت أخرى، مات آخرون وعاش غيرهم. انقلع نظام الطاغوت بعد سنوات الظلم، وتغير العالم حولي. كل هذا في ثلاث وثلاثين سنة، لم أشعر بمرورها، لكن حلاوتها القليلة ومرارتها الكثيرة لا تزال في حلقي.

 هل هذا هو الاستدراج يا إلهي؟ أم هي عبر لا بد لي من تعلمها عملياً ومعرفتها؟ ثلاث وثلاثون عاماً مرت، ولا بد أن تمر، لأن العالم يتحرك ولا ينتظرني أو ينتظرك عزيزي القارئ. إنه رقم مخيف، وكأنك قد صعدت إلى جبل عالٍ وتنظر إلى الوادي السحيق، وتخشى أن تهوي إلى ذلك الوادي وتنتهي كل آمالك وأحلامك.

 مثلكم، كنت أحلم بحياة سعيدة شريفة بعيداً عن المعاناة. لم أنل إلا الشرف والحمد لله، ولا زلت بلا وطن (بيت) بعد كل هذا العمر. فالوظيفة الحكومية هي مجرد مغذٍ يساعدك على عيش الكفاف حتى نهاية الشهر، وتدور دورة الاحتياجات للشهر التالي بعد ذلك.

 كلما كبرت، كبرت معك احتياجاتك. وكلما ولد مولود، ولدت معه احتياجاته كما يولد رزقه أيضاً. أن تعيش، تأكل، تنام، تلبس، نعم ممكن. لكن أن تبني بيتاً، تسافر كل عام، تنال الرفاهية، فهذا محال مع الوظيفة الحكومية، وأتكلم هنا عن الموظف النزيه، أما غيره ففيه كلام كثير.

 كلما مر يوم من عمرك، ازددت صعوداً على الجبل، وزاد بعدك عن الوادي السحيق. اتق الله حق تقاته، فهو البلسم لكل شيء.

 

 تأملات ختامية:


هذه الرحلة الطويلة، المليئة بالتحديات والتغيرات، لم تكن مجرد سنوات مرت، بل كانت دروساً عميقة في الصبر والمثابرة، وفي فهم حقيقة الحياة وتقلباتها. إنها دعوة للتأمل في قيمة الزمن، وفي البحث الدائم عن المعنى والهدف، حتى وإن لم تتحقق كل الأحلام المادية. فالشرف والكرامة، والتقوى، هي الأوطان الحقيقية التي تبقى معنا، مهما تغيرت الظروف من حولنا.

 


0تعليقات

السلام عليكم.. لك مطلق الحرية في ابداء رأيك ولكن تذكر ان الله يرانا جميعاً

[