مطعم حبيبي في هانوي: أطباق لذيذة وقصص مغتربين تثير التأمل

 في قلب مدينة هانوي الصاخبة، وتحديدًا في أحد أزقتها الضيقة والمتعرجة التي تحتفظ بعبق التاريخ وهمسات الماضي، يتربع مطعم "حبيبي" اللبناني كواحة استثنائية تبعث على الارتياح والدهشة في آن واحد.

 

 بالنسبة لنا، كزوار عرب في هذه البقعة البعيدة من العالم، يمثل وجود مثل هذه المطاعم التي تقدم أشهى المأكولات الحلال نعمة لا تقدر بثمن.

حبيبي في هانوي: ليست مجرد وجبات لذيذة... بل مشاهد إنسانية تطرح أسئلة عن مصير المغتربين في فيتنام


 

 ففي خضم استكشافنا لثقافة جديدة وعادات مختلفة، غالبًا ما نجد أنفسنا أمام تحدي العثور على ما يوافق ذائقتنا ويطمئن قلوبنا، خاصة عندما يتعلق الأمر بالطعام الذي اعتدنا عليه ونشأنا على محبته. فبدلاً من الانغماس في تجارب الطهي الغريبة التي قد لا تستسيغها النفس، يظهر مطعم "حبيبي" كمنارة تضيء لنا طريق العودة إلى نكهات مألوفة وذكريات عزيزة.


خارطة مطعم حبيبي في هانوي


 كان يوم السادس عشر من شهر آذار لعام 2025 يومًا محفورًا في الذاكرة، فهو اليوم الذي وطأت فيه أقدامنا عتبة هذا المطعم للمرة الأولى. لم تكن مجرد تجربة لتناول العشاء، بل كانت بداية لتعارف حميم مع "سلطان"، صاحب المطعم المضياف وكادره الودود. في تلك الليلة، استمعنا بإنصات إلى أسماء أطباق لبنانية عريقة، أسماء بدت غريبة على مسامعنا في البداية، لكن سرعان ما أصبحت جزءًا من قاموسنا اليومي.

إن الوصول إلى ذلك الزقاق الضيق المتواري عن الأنظار،  ودهاليزه المتشابكة، يعتبر مغامرة بحد ذاتها، خاصة عندما يفتقر المرء إلى الإلمام باللغة الفيتنامية المعقدة. لولا وجود الأخ "كرم"، الذي كان بمثابة كنز ثمين لنا بفضل إتقانه للغة المحلية، لربما ضللنا الطريق مرارًا وتكرارًا. فمن النادر جدًا أن تجد سائقًا في هانوي يجيد التحدث باللغة الإنجليزية، مما يجعل مهمة التواصل والتنقل أكثر صعوبة وتعقيدًا.

ومع مرور الأيام وتكرار زياراتنا إلى مطعم "حبيبي"، بدأت وجوهنا تصبح مألوفة لدى العاملين فيه. لم يقتصر الأمر على "سلطان" وكادره العربي، بل امتد ليشمل حتى العمال الفيتناميين الذين كانوا يبدون اهتمامًا حقيقيًا بمعرفة آرائنا حول الأطباق المختلفة التي يقدمها المطعم. كانوا يقتربون منا بابتسامات ودودة، يسألوننا بلغة الإشارة وبعض الكلمات المتقطعة عن مذاق الطعام وانطباعاتنا عنه، مما أضفى على المكان جوًا من الألفة والود.

في أحد الأيام، شعر زملائي بإرهاق شديد بعد يوم حافل بالعمل والاستكشاف، ففضلوا طلب الطعام وتناوله في الفندق. أما أنا، فقد اشتقت إلى الأجواء الحيوية للمطعم ورائحة الطعام الشهي التي تنبعث منه، فقررت الذهاب بمفردي بدلًا من البقاء حبيس جدران الفندق.

تفضل الأخ كرم، الذي كان حقًا كرمًا من الله عز وجل، بترتيب سيارة أجرة لي. كان السائق فيتناميًا لا يفهم لغتي العربية ولا أتحدث لغته الفيتنامية، وحتى اللغة الإنجليزية كانت غائبة عن قاموس تواصلنا المشترك. عندما وصلنا إلى مشارف الزقاق الضيق المؤدي إلى المطعم، أبدى السائق تخوفًا واضحًا من الدخول بسيارته في تلك الممرات المتعرجة. طلب مني النزول هناك، وهو ما فعلته على الفور. ولكن المفاجأة كانت عندما مد يده يطلب الأجرة، بينما لم يكن بحوزتي آنذاك أي عملة فيتنامية "دونك". حاولت أن أشرح له بالإشارة والتعبير أن هناك شخصًا آخر سيدفع له كما هو معتاد، وأن عليه أن يكمل طريقه داخل الزقاق، لكننا كنا بحق في حالة من الصمم اللغوي المتبادل، عاجزين عن فهم بعضنا البعض.

في لحظة يأس، اهتديت إلى أيقونة الاتصال الموجودة ضمن تطبيق حجز سيارات الأجرة على هاتفه. اتصلت بكرم على الفور وشرحت له الموقف باللغة العربية. لحسن الحظ، استطاع كرم أن يتواصل مع السائق باللغة الفيتنامية ويوضح له كل شيء، مما خلصني من ذلك المأزق المحرج.

عندما وصلت أخيرًا إلى المطعم، اخترت الجلوس في الهواء الطلق، في الركن الهادئ بعيدًا عن صخب الأحاديث وهمسات النادلين في الداخل. بينما كنت أتأمل الأجواء المحيطة، لفتت انتباهي امرأة ذات ملامح شرقية ، ترتدي بنطالًا عصريًا وتضع باروكة غريبة على رأسها. كانت تشارك رجلًا أوروبيًا المائدة نفسها، يتناولان الطعام ويتحدثان بانسجام واضح.

اقترب "سلطان" من مائدتهما ليسألهما عن رأيهما في الطعام. أجابته المرأة ومن معها بكلمات الثناء والإعجاب، مؤكدين على لذة الأطباق المقدمة. ثم سألها "سلطان" بفضول عما إذا كانت تتحدث اللغة العربية، فأجابته بطلاقة بلهجة مغربية مميزة.

هنا، لم أتمالك نفسي ودخلت في الحوار قائلًا لسلطان: "كنت أظن أنني وأنت فقط من العرب في هذا المكان."

 عندما بادرتني تلك المرأة بالسؤال عن وطني، لم أتردد في الإجابة بصدق. لكن بينما كنت أتحدث، كان في داخلي شعور متزايد بالحذر والدهشة. كانت صورتها، بملامحها الشرقية الواضحة وارتدائها لملابس عصرية مع تلك الباروكة الغريبة، تخلق لدي تساؤلات عميقة. كيف وصلت بعض نساء العرب إلى هذا النمط من الحياة؟ كيف يمكن لامرأة تنتمي إلى خلفية ثقافية عربية، لطالما ارتبطت في أذهاننا بصورة معينة من الحياء والتقاليد، أن تتبنى أسلوب حياة يبدو مختلفًا إلى هذا الحد؟

جلست أتأملها وهي تتناول الطعام وتتبادل أطراف الحديث بانسجام مع رفيقها الأوروبي. لم يكن الأمر يتعلق باللغة التي تتحدث بها، بل بالكيفية التي تعيش بها، بالخيارات التي اتخذتها والتي بدت لي بعيدة عن الصورة التي اعتدت عليها للمرأة العربية. هل تغيرت المفاهيم والقيم إلى هذا الحد؟ هل أصبح الانفتاح على الثقافات الأخرى يعني بالضرورة تبني أنماط حياة قد تبدو غريبة عن جذورنا؟

تلك اللحظة تركت في ذهني أسئلة كثيرة تدور حول الهوية، والتغيرات الاجتماعية والثقافية التي نمر بها كعرب في عالم اليوم. كيف نحافظ على جوهرنا وقيمنا في خضم هذا الانفتاح العالمي؟ وكيف يمكن للمرأة العربية أن تعيش حياتها بحرية واختيار دون أن تفقد الارتباط بجذورها وشرفها وهويتها؟ كان لقائي بتلك المرأة بمثابة نافذة فتحت لي آفاقًا جديدة للتفكير والتأمل في واقع نعيشه جميعًا .واقع تنحدر فيه القيم الى الحظيظ.




2تعليقات

السلام عليكم.. لك مطلق الحرية في ابداء رأيك ولكن تذكر ان الله يرانا جميعاً

[